بقلم. أ. د. / يحيى وزيرى - بناة - القاهرة:
عندما يأتي ذكر استلهام بعض عناصر التراث المعماري الاسلامى في المباني المعاصرة، فان البعض يتعلل بأن هذه الحلول التراثية يستلزم تنفيذها تكاليف مادية عالية، ولكن بالبحث في تراثنا المعماري نجد أنه يتصف بالتنوع الكبير في عناصره لتتناسب مع جميع الطبقات الاجتماعية، بالرغم من أدائها لنفس الوظيفة التي صممت من أجلها.
وقد عرضت فى مقال سابق بعض الأفكار التصميمية فى مجال الأثاث المبنى، واستكمالا لما سبق سوف أعرض فى هذا المقال بعض الأفكار التصميمية المستلهمة من تراثنا المعمارى الاسلامى، والتى حاولت تطبيقها وتنفيذها فى مبانى معاصرة من تصميمى، والهدف من ذلك اعطاء أمثلة فعلية لكيفية الاستفادة من معين تراثنا المعمارى الذى لاينضب لاثراء حياتنا المعاصرة، بأفكار قابلة للتطبيق والتنفيذ وبخاصة فى المشاريع المعمارية قليلة أو متوسطة التكلفة، وبذلك ننتقل من مرحلة التفكير والتنظير الى مرحلة الاستلهام والتطبيق.
وسوف أعرض فى هذا المقال نموذجين تصميميين تطبيقيين يمكن أن يتم تعميمها عند بناء المساجد صغيرة أو متوسطة المساحة، أو فى مبانى الشباب والاسكان المتوسط، وتلك النماذج ماهى الا أمثلة قليلة توضح ثراء وتنوع الفكر المعمارى الاسلامى ليتناسب مع كل طبقات المجتمع ومستويات المبانى من ناحية الحجم أو التكلفة المادية.
1- المحراب والمنبر:
تعتبر المحاريب والمنابر من أهم عناصر المساجد الأساسية على اختلاف طرزها وأحجامها، وقد أولى المعمار والفنان المسلم اهتماما كبيرا لهذين العنصرين من ناحية التصميم والزخرفة والتزيين، واستخدام المواد التى تعطى الاحساس بالفخامة والجمال كاستخدام الرخام الملون أوالخشب المزخرف على سبيل المثال فى تصميم هذين العنصرين، وبخاصة أنهما دائما يقعان فى مرمى بصر المصلين لوجودهما فى حائط قبلة المسجد.
ولاشك أن هذا الاهتمام بهذين العنصرين المتلازمين يزيد من التكلفة المادية لبناء المسجد، وهو لايشكل أى مشكلة فى حالة المساجد الكبرى التى يتم رصد المبالغ الطائلة لتنفيذها وبخاصة من الجهات الرسمية بالدول الاسلامية، ولكن تظهر مشكلة التمويل المادى فى المساجد الصغيرة والتى تبنى فى البلاد الاسلامية بجمع التبرعات المالية من بعض المسلمين وأهل الخير، وهنا تظهر اشكالية عدم التنازل عن اخراج هذين العنصرين بصورة جمالية لائقة، مع أقل تكلفة ممكنة.
فى بداية حياتى التصميمية للمساجد واجهت تلك المشكلة عند قيامى بتصميم مسجد الطلبة ومصلى الطالبات بكلية الطب البيطرى بجامعة القاهرة، فكيف عالجت ذلك فى تصميم محراب المسجد بحيث يظهر بصورة جمالية لائقة، مع أقل تكلفة مادية ممكنة؟.
الفكرة جاءتنى من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام عند بنائة مسجد المدينة المنورة، حيث تخبرنا كتب التراث الاسلامى بأنه قام بتمييز حائط القبلة بمادة معمارية مخالفة عن باقى حوائط المسجد دون وجود محراب، حيث كانت من جذوع النخل عندما كانت قبلة المسجد موجهة للمسجد الأقصى، وكانت من الحجارة بعد تحويلها الى المسجد الحرام.
اذن الفكرة بسيطة جدا وتكمن فى تمييز جدار القبلة كله أو جزء منه بمادة معمارية مخالفة عن باقى حوائط المسجد، وهذا ما استلهمته بالفعل حيث استخدمت فكرة حائط القبلة المسطح من قطع خشبية رأسية فى مسجد الطلبة، صورة (1)، والمحراب المسطح من الطوب فى مصلى الطالبات، صورة (2)،
صورة (1): المحراب المسطح بمسجد الطلبة.
صورة (2): المحراب المسطح بمصلى الطالبات.
وفى تجربة تصميمية أخرى حيث توفرت الامكانات المادية، قمت باستخدام نفس فكرة تمييز حائط القبلة بمادة أخرى مخالفة لباقى حوائط المسجد، وذلك فى أحد المساجد المعاصرة بمدينة القاهرة الجديدة بمصر، حيث استخدمت بلاطات من القاشانى المزخرف بزخارف نباتية اسلامية لتمييز حائط القبلة، مع وجود محراب مجوف من الرخام فى منتصف الحائط، صورة (3)، مما يوضح مرونة استخدام نفس الفكرة ولكن بمواد معمارية متنوعة تبعا لتوفر الامكانات المادية من مسجد الى آخر.صورة (3): تصميم حائط القبلة بمسجد معاصر.
أما اذا انتقلنا للمنبر، فان بعض الأحاديث النبوية تشير الى أن منبر النبوى بمسجد المدينة المنورة، كان عبارة عن ثلاث درجات فقط احداهما كانت تستخدم للجلوس، وهو ماكان يتناسب مع ارتفاع ومساحة المسجد النبوى فى بداية اقامته، ثم بعد ذلك تطورت المنابر وازداد عدد درجاتها وطولها مع تطور عمارة المساجد فى العالم الاسلامى.وفى حالة المساجد الصغيرة أو متوسطة المساحة يشكل امتداد وطول المنبر مشكلة كبيرة، لأنه يقطع اتصال الصفوف الأمامية الأولى للمصلين، الى جانب تكلفته المادية الكبيرة، من هنا فانه يمكن الرجوع فى بعض الحالات التصميمية الى فكرة المنبر النبوى ذو الدرجات القليلة والمحدودة، وبخاصة أن بعض الدراسات الحديثة أوضحت أنه كلما كان الخطيب الواقف على المنبر أقرب للمصلين، كان ذلك أدعى للتفاعل معه من الناحية البصرية أثناء القائه لخطبة الجمعة.
والصورة المرفقة مع المقال توضح تصميما لمنبرا خشبيا بأحد المساجد المعاصرة التى قمت بتصميمها، وتم فيه تقليل عدد الدرجات لكى لايأخذ المنبر حيزا كبيرا مع تقليل التكلفة المادية، والمحافظة على الناحية الجمالية والشكلية فى نفس الوقت،صورة (4)،
صورة (4): التصميم المبسط للمنبر الخشبى.
2- النوافذ الخارجية :تعتبر النوافذ والفتحات الخارجية بواجهات المبانى عنصرا وظيفيا هاما لأدائها العديد من المنافع والمهام، يأتى على رأسها التهوية وادخال الضوء الطبيعى والاطلال على المنظر الخارجى.
وتظهر الاشكالية التصميمية فى كيفية تحقيق كل المنافع السابقة من ناحية والحفاظ على الخصوصية من ناحية أخرى، وهو ماتم معالجته فى العمارة الاسلامية وبخاصة عمارة المساكن والقصور باستخدام المشربيات فى واجهات تلك المبانى، والتى مكنت من الجمع بين التهوية والاضاءة والنظر للخارج مع المحافظة على خصوصية من بالداخل، وبخاصة النساء.
ومع اتجاه التصميمات المعمارية الحديثة لاستعمال الواجهات الزجاجية والألومنيوم، تم افتقاد عامل الخصوصية وبخاصة داخل المبانى السكنية المعاصرة، ولايحاول الكثيرون استعمال المشربيات فى تصميم الواجهات بحجة ارتفاع تكاليفها المادية.
ولكن يمكن عن طريق تطبيق نفس الفكر التطبيقى للمشربية على الشبابيك التى تستخدم النوافذ الزجاجية والشيش الخشبى التقليدى، أن يتم توفير الخصوصية مرة أخرى لواجهات الكثير من المبانى السكنية المعاصرة، وذلك بتصميم شبابيك الشيش بحيث تفتح بنفس طريقة فتح شبابيك المشربيات، وهو مايتضح من الصورة المرفقة لنموذج لشباك بواجهة منزل معاصر من تصميم مقدم المقال، صورة (5)، اتبع فيه نفس الفكر التصميمى للمشربيات التقليدية ولكن بأسلوب مبسط، مماحقق عامل الخصوصية مع عدم ارتفاع التكاليف المادية فى نفس الوقت، وهى فكرة يمكن تطبيقها على نطاق واسع فى اسكان الشباب أو الاسكان الاقتصادى.
أما فى حالة الاسكان الفاخر أو المرتفع التكاليف، فان استخدام المشربيات بأسلوب تصميمى معاصر، يحقق عامل الخصوصية والتهوية والاضاءة الى جانب تحقيق الجانب الجمالى فى نفس الوقت.
صورة (5): تصميم لشباك معاصر مستوحى من فكرة المشربية الاسلامية.
ان الأفكار التصميمية التى أوردناها فى مقالنا هذا ربما تعطى فكرة بسيطة عن امكانية تطوير تراثنا المعمارى، والاستفادة منه فى حياتنا المعاصرة بحيث لاتنقطع صلتنا بهذا التراث مع امكانية استلهام حلول وأفكار متنوعة تتناسب مع مستويات مادية واجتماعية مختلفة، ولاشك أنه توجد العديد من الأفكار والتجارب التصميمية المعاصرة لبعض المعماريين المسلمين، والتى يضيق المقام عن الاشارة اليها هنا، وتؤكد على أهمية دراسة تراثنا المعمارى فى كل البلاد الاسلامية على اختلاف طرزه المعمارية، دراسة علمية واعية ومتأنية، لتطوير هذا التراث والاستفادة منه فى الارتقاء بمجتمعاتنا الاسلامية المعاصرة، بكل جوانبها الحضارية والعمرانية والجمالية فى اطار اقتصادى ومادى يتناسب مع امكانات تلك المجتمعات بمستوياتها المختلفة.أ.د يحيى وزيري
أستاذ العمارة ومحاضر سابق بجامعة القاهرة
شارك هذه التدوينة :
|
|
Tweet |
أترك تعليقك بإستخدام الفيسبوك:
أترك تعليقك بإستخدام بلوجر:
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق